حلّ وسط أو شيء آخر

المصطلحات الأكثر استخدامًا منذ عام ونصف على الأقلّ في الرسائل اليوميّة التي تصلني من أصدقاء في “الخارج”: أخاف أن أسألكم عن أحوالكم في بيروت ولكن.. ماذا ستفعلون؟ هل ستغادرون؟

وأضع الخارج بين مزدوجين في سعيي لفهم هذا الخارج ووضعه في تصنيفٍ ما يسهّل التعاطي معه. فللخارج استعمالات متعدّدة في كلامنا اليوميّ… هناك الخارج المتربّص بالبلاد والذي يكثر الكلام عن تدخّله فينا وعن ضغطه علينا وعن رفضنا لإملاءاته أو رغبتنا بتبنّيه لنا. وهناك الخارج خزّان الاغتراب الذي وطأته أقدام أهل بلاد الشام مع بطاقاتٍ عثمانيّة وثمّ لبنانيّة أو سورية أو فلسطينية الخ وأصبحت فيه في أجيالها الرابعة أو أكثر. وهناك الخارج الذي تستعرض الميديا يوميًا إنجازاته وتقدّمه ورأفته وقوانينه أو تعيّر الناس بظلمه والعنصرية فيه. وهناك الخارج الذي تُستخدم قوانينه وسبل الحياة فيه للإضاءة على تفكك المجتمع وانحدار أخلاقه أي لتخويف الناس من هكذا مصيرٍ أسودٍ في منطقتنا. وهناك الخارج الذي يتذمّر سكانه حول همومهم ونسخر لبعد هذه الهموم عن أبسط مشاكلنا. وهناك الخارج الذي ذهب إليه أهل بلاد الشام من أجل تجميع ثروات النفط (ولكن للأمانة لم يكن يسمّى خارجًا مطلقًا بالرغم من أنّ السفر من بيروت إلى الإمارات مثلًا في رحلةٍ مباشرة يساوي مسافة/وقت السفر من بيروت إلى باريس). وهناك الخارج قبلة الطامحين في جمع ثروات إفريقيا مما رماه الرجل الأبيض من فتاتٍ بعد نهبها وإفقارها وكسر ناسها لسنوات طويلة. وهناك الخارج مقصد رحلات استجمام سياسي البلد الذي نرى صورًا لهم في أفخم الأماكن مع عائلاتهم كل عام ونتحسّر لسعادتهم على حساب مالنا المنهوب. وهناك الخارج الذي انفتحت أبوابه للسفر السياحيّ للعامة حين كان وهم العملة اللبنانية سائدًا، سنوات قليلة قبل السقوط الكبير، حيث صار السفر “سهلًا” إلى مقاصد عدّة خلال الصيف. وهناك الخارج الذي يُرسل المال عبر البنوك والتحويل من المغتربين إلى أهلهم وهو حسب الأسطورة الذي يمنع أن يجوع لبنان. وهناك الخارج الذي دأبت الناس على استقطاب اليد العاملة غير المكلفة منه في عقودٍ لا تبتعد أبدًا عن كونها استعباد. وهناك الخارج كمصطلح يحدّد علم ومهنيّة المقيمين في البلاد لناحية دراستهم فيه – أيًا يكن – ونيلهم من شهاداته – أيًا تكن – وتقديمهم كنخبٍ بالضرورة أمام متخرّجي البلاد الأقلّ معرفة بالضرورة. وهناك أيضًا الخارج المجاز… كالفضاء الخارجي الذي تتسابق إليه الدول المتقدّمة – أو الممولة فقط – بينما نتسابق على جلب أخبار النيزك المنتظر ليأتي منه ويخلّصنا

بيروت – 13 آب 2020

كلّ هذا خارجًا. ولكلّ خارجٍ داخلٌ يقابله. أمّا الداخل فهو رحاب البلاد، وهو دائرة السياسيين المغلقة، وهو دائرة الأحزاب وشبكتها، وهو سهل البقاع أيضًا غير المطلّ على البحر المتوسّط والذي يطالب بعض أهله أن يكون لهم بحر في منطقتهم، وهو داخل بلاد الشام أحيانًا، وهو وصف أهل أراضي فلسطين التي احتلّت عام 1948

وفي لحظاتٍ يتداخل الخارج بالداخل كأن يعتبر أحد المقيمين في البلاد أو مجموعة كبيرة منهم أن الداخل هو جزء من أيّ خارجٍ كان أو أن يعتبر ألا خلاص للداخل دون ضمّه وفرزه مع الخارج… وهكذا

المهم الآن… كان السؤال الأساسي عمّا سنفعل وإذا كنّا سنغادر البلاد. بالرغم من أنّ هذا السؤال شخصي – وهو يصلني بشكل شخصيّ من أصدقاء للإجابة عن نفسي – إلّا أنّه في أهميته سؤالًا عامًا… أعني أنّه لا تهمّ إجابتي عن نفسي كفرد ولا تغيّر مجرى الحياة اليوميّة لأحدٍ سواي… لنقل للعائلة المباشرة على أبعد تقدير

ماذا سنفعل؟ وهل سنغادر البلاد؟ لا شكّ أنّ المعضلة تكمن هنا… في الإجابة على هذين السؤالين

ماذا سنفعل؟ سنفعل ما نجيده. نجيد الاستبدال ونجيد تطوير الاستبدال. فنحن اعتدنا استبدال كلّ خدمةٍ عامّة لعدم توفّرها ولعدم إجادتنا سبل توفّرها بالقوة والإصرار بأخرى خاصّة. فقمنا مثلًا بالقبول بتسديد ثمن فاتورتي خدمة الكهرباء، واحدة للخدمة العامة غير المتوفّرة وأخرى لأصحاب المولّدات الخاصة. فنقوم بين الحين والآخر بالاعتراض إذا اختلف تأمين الكهرباء من قبل المولدات الخاصة عندما يطول تقنين الخدمة العامة. ونقوم أيضًا بتصميم تطبيق الكتروني يعطينا إشارة لساعات الطاقة بالخدمة العامة ولأوقات انقطاع التيار الكهربائي العام… فنقوم مثلًا بتنظيم أيامنا وأوقاتنا وأعمالنا حسب إشارة التطبيق. ونحن اعتدنا شراء المياه في عبواتٍ بلاستيكيّة تُملئ من منابع مياهٍ موجودة في جبال البلاد ولكنها قد ضلّت طريقها إلى بيوتنا فأصبحت معبّئة في عبواتٍ نشتريها. ونحن اعتدنا أن ندفع أغلى فواتير الهاتف الخليوي وقبلنا ألّا تكون الخدمة إلّا محتكرة من قبل شركتين تقدّم التسعيرة نفسها ورداءة الخدمة عينها. ونحن اعتدنا ألّا يكون هناك نقلًا عامًا إلًا من خلال بعض المحتكرين لشبكات نقلٍ خاص واعتدنا أن نستدين من البنوك لشراء سياراتٍ كثيرة للسير بها في طرقاتٍ اعتدنا عتمتها واعتدنا عدم وجود الصيانة فيها واعتدنا أيضًا أن يموت الناس بسببها بشكلٍ يوميّ. ونحن اعتدنا ألّا نملك بيتًا إلّا إذا استعطنا رهن أنفسنا لثلاثين عامًا واعتدنا ألّا نتوقّع الكثير من التعليم الرسمي وأن نقول بأنّ سبب ضعف معرفتنا أو شبكتنا هو عدم قدرتنا نحن على تسديد أقساط التعليم الخاص وهو ليس ذنب التعليم الرسمي شبه المجّاني. واعتدنا أن نرهن أرضًا لتسديد قرض التعلم الخاص واعتدنا ألّا نُقبل بأعمالٍ مدفوعة بشكلٍ مقبول لأننا لا نملك الشبكة والعلاقات… واعتدنا أن يبصق في وجوهنا على أبواب المشافي والجامعات والبنوك والدوائر الرسمية وأمام مواكب السياسيين وفي كل كلمة يصرّحون بها وألّا نعتبرها إهانة شخصيّة بل أن المقصود غيرنا بالتأكيد. ولكننا اعتدنا رفض الرضوخ لهذه العادات السيئة ولكننا اعتدنا أيضًا العودة للرضوخ لها سريعًا فنستبدل الغضب الجماعيّ بالحزن الفرديّ. فقد سقط خوفنا غير مرّة وكان لا بدّ أن يسقط وهمنا أيضًا. هذا الوهم تحديدًا… أنّ الاستبدال ليس أسلوبنا

هل سنغادر؟ سنغادر – أم لا – مما نعتبره داخلًا إلى ما نعتبره خارجًا على ألّا تُحصر المخيّلة في الدواخل والخوارج أعلاه. قد تكون الرحلة هروبٌ من رحاب البلاد إلى أراضي القوانين. وقد تكون انفكاكًا من دائرة السياسيين إلى داخل البلاد، إلى واقعها. وقد تكون بحثًا في البلاد وتشكيلها وتكوينها. فإذا كان اسقاط الخوف غير ممكنٍ إلّا في لحظةٍ جماعية وإذا كانت السيرورة لإسقاط الوهم لا يمكن أن تحصل إلّا جماعيًّا أيضًا، لا بدّ أن يكون التفكير في العمل والحركة جماعيًا. فلا يعنينا أن يفعل فردٌ أو لا يفعل وأن يغادر فردٌ ويبقى آخر بل ما يعني هو أن يكون التفكير في البلاد جماعيًا في داخلها وخارجها وتداخلاتها وفي ما يمكن لها أن تكون

هذا ليس “حلّ وسط” بين البقاء والمغادرة وبين العمل واللا عمل.. ولكنّه شيء آخر يحتّم الحاجة لتجاوز الأوهام الفرديّة (وليس الأمنيات والحاجات الفرديّة طبعًا) في هذه اللحظة التي صنعناها من خلال مهارة الاستبدال (من الجيّد الاعتراف بأننا قد صنعناها) … فنمارسها مرّة أخرى ولكن نوظّفها في تخيّل طريقٍ آخر وتصوّر سبلٍ وأدوات مختلفة لبناء بديلٍ عن هذا الخوف من السؤال عن أحوالنا أو الهروب من التورّط في الإجابة… بديلٌ قد نستبدله هو أيضًا. أعني أنّ افتراضه مرتبطٌ أيضًا بالحاجة للخروج من الحتميات المفروضة بأنّ الواقع البائس حتميّ وبأن تغييره كارثيّ وبأنّه لا يمكن تصوّر مجرى آخر للأمور – آذار 2021

أضف تعليق